2007/10/17

لقطـــــــه 000 والله عيب !!

بريشة الفنان خضير الحميري ـ نشرت في جريدة الصبـــاح


بالحب نمحو الجراح






ذاكرة المكان.. تداعيات من تحت رماد المتنبي


الطـريــــق

علي الحبيب

في ستينيات القرن الماضي، ولم يمضِ على تعييني معلماً في ريف الشطرة اكثر من عام... كان الوالد طريح الفراش، وخمسة اخوة مع امهم، امانة في عنق المعلم (حديث التعيين)..
كنت مضطرا وبحكم مسؤوليتي العائلية ان اجيء الى بغداد مصطحباً احدهم للتقديم الى الجامعة، او بسبب المرض او طلب المعالجة...
كانت المرّة الاولى ان اصطحبت اختي التي تكبرني عاماً، للتقديم الى جامعة بغداد.. وقبلت فعلا في كلية الشريعة، التي كانت بنايتها ملاصقة لجامع الأمام (ابو حنيفة).
عشرة دنانير.. كانت كل ما باستطاعتي تدبيرها لتغطية تكاليف المهمة... فان لم اكن قادرا على توفيرها من راتبي، كنت استدينها من احد الاصدقاء او الجيران وخلال الايام القلائل التي امضيتها في امر التقديم للجامعة، كنت عرجت على شارع المتنبي، تطلعت الى مكتباته وما ضمته من نفائس الكتب، من روايات ومجاميع قصصية ودواوين شعر... كانت عيناي تبصران انشودة المطر والمعبد الغريق واصابعي تتلمس ما بقي من العشرة دنانير... وهل يكفي المتبقي حتى العودة الى الشطرة، دون مطبات؟ رجعت الى بيت العم الذي نزلنا عنده، والحسرة تملأ الصدر كانت المرة الثانية التي جئت فيها الى بغداد، حين اصطحبت اخي الذي يصغرني باربع سنوات لتقديم اوراقه الى كلية الطب... كانت الدنانير العشرة ذاتها وشارع المتنبي ذاته، حيث تكررت المأساة، وكانت اكبر هذه المرة، حيث اطلت علي رواية الاديب الكبير نجيب محفوظ (اولاد حارتنا)، سألت صاحب المكتبة عن سعرها، فلم يجبني، راح يوضح لي بان ثلاث نسخ فقط وصلت الى بغداد، بسبب منع الازهر الشريف نشرها وتوزيعها... وبعد ايضاحات وشروح منه، ولهفة كبيرة مني، قال: دينار... وراحت اصابعي تتلمس المتبقي من الدنانير العشرة... وباصرار غريب، اخرجت الورقة الزرقاء واعطيتها اليه... ثم رحت اتهادى في شارع المتنبي واولاد حارتنا مستقرة تحت ابطي.. وهمست... انا سعيد الان حتى لو اضطررت ان اشغل اخي حسين مستخدماً في بلدية الشطرة، بدل ان يكون طبيباً.
وجاء دور مصدق.. اصطحبته الى عيادة الدكتور محمد سلمان الكائنة في شارع الرشيد، وكان يعاني من نوبات ربوية شديدة.. كانت الدنانير العشرة ذاتها... وشارع المتنبي على حاله، لم يتغير... وبعد مراجعة للطبيب وجولة في المستشفى لاجراء التصوير الشعاعي والتحليلات وشراء بعض الادوية، عرجت على المتنبي... كانت عناوين الكتب توخز عينيّ دون رحمة... الشيخ والبحر... الجريمة والعقاب، كوخ العم توم، ذهب مع الريح... وتحركت أصابعي لتتلمس ما تبقى من العشرة دنانير... وبشعور من تأنيب الضمير، والاحساس بالذنب... قلت لنفسي... انا اصطحب مريضاً هذه المرة فليس من العقل المغامرة ورجعت خالي الوفاض... تطاردني العناوين المثيرة...
في السبعينيات دخلت المتنبي مقيماً في بغداد ولست مسافراً ومنذ الثمانينيات وحتى الالفين واثنتين مارست مهنة الخط والاعلان التجاري وتنقلت في ثلاثة عشر محلاً في محيطه، ازقته وفروعه الضيقة... وتعرفت فيه على نخبة من المثقفين والادباء والشعراء والكتبيين... وكوكبة من الخطاطين... عبدالحسين الركابي وحيدر ربيع وحيدر الموسوي... وائل البدري .. وحميد السعدي... وعبدالرزاق الكناني وآخرين. ذات يوم.. وكنت جالسا مع الصديق نعيم الشطري في مكتبته ومزاده ادى الشخص الذي يقودها التحية... فرد عليه نعيم بحرارة... ثم ألتفت إليّ وقال:
هل تعرف عدنان؟
ومن عدنان؟
الشخص الذي سلم علينا قبل لحظات
لا... لا اعرفه
قال نعيم مستغرباً: كيف لا تعرفه وهو من مدينة الرفاعي التي عشت فيها سنوات طويلة؟
قلت: انا غادرت الرفاعي في العام 59، وربما يكون عدنان لم يولد بعد في هذا التاريخ.
نهض نعيم وقال لي: تعال نذهب اليه
دخلنا مكتبة عدنان... وقبل ان اتعرف عليه... جلت بنظري في ارجاء مكتبته، اذهلني ذلك الثراء الفكري والمعرفي.. كانت كعوب الكتب المذهبة تدلل على انها كنز كبير... وتعرفت على عدنان... وبعد لحظات قصيرة انتقلت الى مدينة الرفاعي وخمسينيات القرن الماضي... وتذكرت ذلك الرجل النحيف... فارع الطول بدشداشته الرصاصية... يحتضن كدساً من الصحف بين ذراعيه ويجول في سوق الرفاعي الكبير وفروعه الضيقة... مبتدئاً من مقهى عبد علي وقصر موحان الخيرالله الى الصفاة الجديدة... ومقهى ومحل الحاج محمد الصفار... انه بائع الصحف المتجول (سلمان الخفي).
وتوثقت العلاقة، واحببت (ابا ياسر) لدماثة خلقه ومثابرته وطموحاته الكبيرة... سالته يوماً عن ديوان الجواهري... فأشار الى احد الرفوف وكان الديوان مرصوفاً باجزائه السبعة وقال: طبعة جديدة ومجلدة ومذهبة بعته بتسعين الف دينار... ولك بسبعين فقط...
وفي اليوم التالي لتفجير شارع المتنبي، كنت اتابع وأسأل عن الزملاء والاصدقاء... وحجم الخسائر... ومصير فلان... وفلان... فعرفت ان عدنان واحد من الضحايا، وعلمت ان فرق الانقاذ والمتطوعين لانتشال الجثث قد عثروا على نصف جسده، اما النصف الآخر فقد تطايرت اشلاؤه في محيط الشارع... اما مكتبته العامرة بنفائس الكتب والمؤلفات من شتى صنوف المعرفة والفكر والثقافة فقد احترقت بالكامل...
لم تكن رفوف مكتبة عدنان تحوي علب الحشيش والكوكايين المصنعين في كهوف الظلام. كانت تحتوي على ارث حضاري لاجيال من المفكرين والكتاب، كان فيها كتاب الاغاني، والكامل في التاريخ، ومروج الذهب، وابن عساكر، فضلاً عن دواوين الشعر بدءاً من المتنبي والمعري وانتهاءً بالجواهري والسياب...
احترق المتنبي، واحترقت مكتبات.... وتفحمت اجساد شباب كانوا يفرشون زادهم على ارصفته... واحترقت ذكريات تمتد الى اكثر من اربعين عاماً.

sattar

sattar
من أعمال الفنان ستار الفرطوسي ـ فنلندا

haider

haider
من أعمال الفنان حيدر الموسوي ـ السويد